الثلاثاء 08 يوليو 2025 الموافق 13 محرم 1447
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
القارئ نيوز القارئ نيوز
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
عاجل

«العزيمة».. رائد الواقعية في السينما المصرية وأيقونة الحارة الشعبية

فيلم العزيمة
فيلم العزيمة

لا يزال فيلم «العزيمة» يعد علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية، ليس فقط لأنه صُنف كأفضل فيلم في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن لأنه أرسى قواعد سينما الواقعية، وقدّم صورة صادقة للمجتمع المصري آنذاك، بكل تفاصيله اليومية وعلاقاته الإنسانية البسيطة، وهو ما تناوله الناقد الكبير سعد الدين توفيق في كتابه «قصة السينما» الصادر عام 1969.

كمال سليم.. الأب الروحي للواقعية

المخرج كمال سليم، صاحب الفيلم، كان له الفضل في تقديم واقعية لم تعرفها السينما المصرية من قبل، فلم يكن يهتم فقط بالبطل والبطلة، بل كان يصنع من الخلفية مشهداً موازياً ينبض بالحياة. 

وقد ظهرت هذه الرؤية بشكل واضح في مشهد حارة البطل «الأسطى حنفي»، حيث كانت الخلفية مليئة بالتفاصيل: بائع الفول الذي يلتف حوله الزبائن، الجزار الذي يناقش الزبائن في طلباتهم، الأطفال الذين يلعبون في الشوارع، الأمهات التي تنادي من النوافذ، وصبي الخبز، وبائع الزبادي، والحنطور المتهادي في الحارة.

كل هذه التفاصيل لم تكن عبثية، بل كانت جزءًا من بناء عالم الفيلم، وإعطاء الحارة الشعبية روحًا وملامح واقعية تُشعر المشاهد أنه يعيش بين سكانها.

الحب على السلم.. مشهد من قلب الناس

من أبرز مشاهد فيلم «العزيمة» مشهد يجمع بين البطل محمد حنفي، والبطلة فاطمة، على سلم المنزل الشعبي.

 تبدأ الحكاية حين ترى فاطمة من شرفتها شقيقها الصغير يلهو مع الأطفال، فتناديه للصعود لكنه يرفض، وعندما يمر محمد بالصدفة، تطلب منه أن يساعدها في السيطرة على شقيقها.

يمسك محمد بالطفل ويصعد به إلى السلم حيث تقف فاطمة، لكن الطفل يرفض أن يصعد معها إلا بعد أن يمسك محمد بيديها، فيوافق محمد، ويظل ممسكا بيديها حتى بعد أن يصعد الصغير، لتبدأ لحظة رومانسية بين العاشقين، يتبادلان فيها الحديث عن أحلامهما، ويقترب محمد ليطبع قبلة على شفتي فاطمة، لكنها تنفر وتقول له: «يا ندامتى، عيب يا سي محمد».

لكن محمد لا يستسلم، ويهددها بأنه سيتبعها إلى باب شقتها، فتتوسل إليه ألا يفعل، وتعده بالنزول إليه مرة أخرى، وعندما تنزل بضع درجات، يخطف منها قبلة، وسط دلالها وخجلها.

هذا المشهد جاء غاية في العذوبة وخفة الظل، وعكس جماليات العلاقة العاطفية البسيطة بين شاب وفتاة من أبناء الحارة، بلا مبالغة أو افتعال، بأسلوب أقرب إلى الحياة من التمثيل.

المولد.. احتفالية شعبية على الشاشة

ومن المشاهد البديعة التي نقلت روح الحارة الشعبية أيضًا، مشهد المولد. نجح كمال سليم في أن يصنع استعراضا مصريا أصيلا لمظاهر الاحتفال، من الزينة وباعة الحلوى، إلى الألعاب الشعبية مثل «الكبسولة»، ولاعبي السيرك. 

كان المشهد أشبه بلوحة فنية حية تعكس ثقافة الاحتفال الشعبي، وتشرك المشاهد في أجواء الفرح والبساطة التي تسود مثل هذه المناسبات.

ديكور نابض بالحياة.. وليس مجرد خلفية

ما فعله كمال سليم في فيلم «العزيمة» يتجاوز حدود الإخراج التقليدي، فقد جعل من الحارة بطلا حقيقيا في الفيلم، حيث لم تكن مجرد مكان تدور فيه الأحداث، بل كانت عنصرا فاعلا في بناء الشخصيات، وفهم ملامحهم الاجتماعية والإنسانية.

لقد كانت الحارة تتحرك وتتنفس وتعيش، ما جعل المشاهد يشعر وكأنه جزء من هذه الحياة اليومية، وبهذا الأسلوب، نجح كمال سليم في تقديم سينما واقعية نابعة من المجتمع، ليست مستوردة أو مقلدة.

تجربة غير مسبوقة في ثلاثينيات القرن الماضي

عند عرض «العزيمة» في الثلاثينيات، كانت السينما المصرية لا تزال تتلمس خطواتها. 

وكانت أغلب الأفلام إما ميلودراما مكررة أو قصص حب برجوازية بعيدة عن الواقع الشعبي. 

فجاء «العزيمة» كجرعة من الصدق والبساطة، حيث لم يعتمد على نجوم كبار، بل قدّم شخصيات من لحم ودم، تعيش وتتنفس كما يعيش الناس في الواقع.

هذا النهج جعل الفيلم محبوبا على نطاق واسع، خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة الذين رأوا أنفسهم وأحلامهم وأزماتهم معروضة على الشاشة لأول مرة.

إرث «العزيمة».. أثره لا يزال ممتدا

اليوم، وبعد أكثر من ثمانية عقود على إنتاجه، لا يزال فيلم «العزيمة» يحتل مكانة خاصة في قلوب عشاق السينما، ويدرس كأحد أهم الأفلام في تاريخ الواقعية.

 ويعود ذلك ليس فقط إلى قصته البسيطة، بل إلى أسلوب إخراجه، واهتمامه بالتفاصيل، وقدرته على تحويل الحياة اليومية إلى فن خالص.

فهو شهادة حية على أن الواقعية ليست مجرد تقنية، بل هي إحساس بالناس والمكان والزمن. 

وما قدمه كمال سليم في «العزيمة» كان بحق ثورة سينمائية مبكرة غيّرت شكل الفيلم المصري، وأعطت السينما المحلية هوية أصيلة لا تزال حاضرة حتى اليوم.

تم نسخ الرابط