التشاؤم في شهر صفر.. لماذا حذر النبي من أربع خرافات منتشرة؟

صفر من الأشهر التي طال حولها الجدل والتأويل عبر التاريخ العربي والإسلامي، إذ ارتبط شهر صفر عند الجاهليين بمفاهيم التشاؤم والربط بين قدومه وكثرة المصائب والمكاره، حتى شاع بين الناس سؤال يتكرر مع بداية كل عام هجري، وهو: «هل يكثر الموت في شهر صفر؟»، وما هو أصل هذا التشاؤم؟ ولماذا حذر النبي ﷺ من أربعة مفاهيم مغلوطة اقترنت بالشهر؟، وقد جاء الإسلام ليمحو هذه الاعتقادات ويؤسس لفهم سليم مبني على «القدر» والتوكل على الله لا على الأوهام والخرافات.
الجذور التاريخية لتشاؤم العرب من شهر صفر
يعود الاعتقاد بتشاؤم العرب من شهر صفر إلى عادات جاهلية قديمة ربطت بين قدوم هذا الشهر ونزول المصائب ووقوع الأزمات، وقد أشار بعض المؤرخين إلى أن سبب تسمية صفر بهذا الاسم يرجع إلى خلو مكة من أهلها إذا خرجوا للغزو أو الترحال، وقيل إنهم كانوا يغيرون على القبائل الأخرى فيسلبونهم أموالهم فيصبح من يلاقونه «صفر اليدين» أي خاليًا من المتاع، ما عزز من ارتباط الشهر بالحزن والفقد والاضطراب.
وقد ساد اعتقاد آخر بأن روح القتيل تخرج من قبره في شهر صفر وتنادي بالثأر، ما جعل الناس يمتنعون عن الزواج أو البيع والشراء أو أي خطوة نحو مشروع جديد خشية سوء العاقبة.
أربعة أوهام حذر منها النبي ﷺ
عندما جاء الإسلام، تصدى النبي محمد ﷺ لتلك الموروثات الجاهلية ودعا إلى نبذها، فورد عنه قوله كما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»، وقد فسر العلماء هذا الحديث بأنه نفي صريح للتشاؤم الذي كانت العرب تعتقده في هذه الأمور الأربع.
«العدوى» التي كان يُظن أنها تنتقل بذاتها، نفاها النبي، موضحًا أن كل شيء بقضاء وقدر، و«الطيرة» وهي التشاؤم بالطير أو الفأل السيء، تم إنكاره، و«الهامة» وهي اعتقاد أن روح الميت تعود بشكل طائر تنذر بالشر، لم يُقرها الشرع، و«صفر» نُفي عنه كل ارتباط بالشؤم والمكروه، سواء فُسر المرض به أو الشهر نفسه.
صفر في الجاهلية.. منكران كبيران
يؤكد المؤرخون أن العرب ارتكبوا منكرين كبيرين في شهر صفر قبل الإسلام، الأول كما ذكر «تاج العروس» هو التلاعب في الأشهر الحُرم حيث كانوا يقدمون ويؤخرون المحرم إلى صفر ليتمكنوا من القتال والنهب في الوقت الذي يجب فيه الكف عن العداء.
أما المنكر الثاني فهو التشاؤم المطلق من شهر صفر حيث كانوا يرون فيه زمان النحس ويخشون اتخاذ أي قرار مصيري فيه مثل الزواج أو التجارة أو السفر، وكانوا يتجنبونه معتقدين أن ما يقع فيه مصيره الفشل والخسارة.
شهر صفر في الإسلام.. مناسبات مشرّفة وأحداث خالدة
جاء الإسلام ليبدد غيوم التشاؤم المرتبطة بشهر صفر، وقد شهد هذا الشهر أحداثًا فارقة في التاريخ الإسلامي، ففيه وقعت أول غزوة للنبي ﷺ وهي «غزوة الأبواء»، كما تم فيه فتح خيبر، وفيه أسلم اثنان من كبار الصحابة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تزوج النبي ﷺ بالسيدة خديجة رضي الله عنها في هذا الشهر، وهو ما ينسف تمامًا الاعتقاد الجاهلي بعدم التوفيق في الزواج في صفر.
هذه الوقائع تعزز أن شهر صفر كسائر شهور الله، لا فضل فيه ولا نحس، وإنما هو زمن تجري فيه الأقدار بميزان عادل، يصيب فيه الخير من يشاء الله ويُقدر فيه البلاء لحكمة يعلمها سبحانه.
حقيقة الموت في شهر صفر
السؤال الشائع «هل يكثر الموت في شهر صفر؟» لا أصل له من الصحة في ميزان الإسلام، فالموت لا يرتبط بشهر دون غيره، وإنما هو أمر محتوم مكتوب في صحف الأقدار لا يتقدّم ولا يتأخر لحظة واحدة، كما قال الله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ و﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾.
وقد بيّن العلماء أن ملك الموت له أعوان، لكنه هو الموكل الرئيسي بقبض الأرواح، وليس للموت وقت معلوم أو موسم معين، فقد يُتوفى الإنسان في ريعان شبابه أو في شيخوخته، وقد يفارق الحياة في لحظة سعادة أو شدة، فالموت قدر لا يخضع لتوقيت بشري أو موسم زمني.
التوبة والاستعداد للموت في أي وقت
من فقه المسلم أن يكون مستعدًا للموت في كل وقت، لا في شهر صفر فقط، فكما قال النبي ﷺ: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، وهذه وصية جامعة تلخص طريق الاستعداد للموت، بالتوبة المستمرة، وحسن المعاملة، والرجوع إلى الله في كل حين.
والمسلم الحق لا ينشغل بما إذا كان الموت يكثر في شهر صفر أو غيره، بل ينبغي أن يوقن أن الموت حق لا يُنكر وأنه يأتي بغتة، وأن الله وحده هو المتوفي والمالك للروح والجسد.
التشاؤم خرافة مرفوضة والعقل نور
إن الإسلام جاء ليحرر الإنسان من الخرافات، ويؤسس لتفكير واعٍ يُنير العقل ويطمئن القلب، فلا يجوز التشاؤم من الأوقات أو الأمكنة أو الأشخاص، فكلها مخلوقات الله، وإنما البركة أو العقوبة تكون بحسب الأفعال لا الأزمنة.
وقد جاء في القرآن الكريم رد على من اتهم الزمان فقال تعالى ﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم﴾، وفي الحديث القدسي قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»، فالزمن بريء من كل اتهام.