«العنف الرقمي الخفي».. خطر صامت يهدد أطفالنا عاطفيا

العنف الرقمي أصبح من أخطر الظواهر التي تواجه المجتمع الحديث، فهو لا يترك أثراً مادياً كما في العنف التقليدي، لكنه يخترق النفس والعقل ويؤثر في وجدان الأطفال على نحو عميق، ويأتي هذا النوع من العنف في صور متعددة تبدأ من التعليقات المسيئة عبر وسائل التواصل وتنتهي بالتهديد أو التنمر الإلكتروني الذي يترك الطفل في حالة من الخوف والاضطراب، ومع ازدياد اعتماد الأطفال على التكنولوجيا منذ الصغر، صار من الضروري إدراك حجم هذا الخطر الصامت الذي يتسلل إلى البيوت عبر الشاشات الصغيرة.
ماهو العنف الرقمي وكيف يتشكل
يُعرف العنف الرقمي بأنه كل سلوك عدواني أو مؤذٍ يُمارس عبر الوسائط الرقمية مثل الإنترنت أو الهواتف الذكية أو الألعاب الإلكترونية، وقد يأخذ شكل كلمات جارحة أو صور محرجة أو تهديدات مبطنة، وتكمن خطورته في أنه يحدث في فضاء مفتوح يصعب السيطرة عليه، إذ قد يتعرض الطفل له دون علم أسرته أو مدرسته، كما أن المعتدي يمكن أن يظل مجهول الهوية مما يضاعف من أثر الصدمة على الضحية التي تشعر بالعجز أمام عدو غير مرئي، ويخلق هذا النوع من العنف الرقمي حالة من القلق الدائم تجعل الطفل فاقداً للثقة في نفسه وفي من حوله.
التأثير النفسي العميق على الأطفال
يتسبب العنف الرقمي في آثار نفسية تمتد لفترات طويلة، فالطفل الذي يتعرض للسخرية أو الإهانة على الإنترنت يشعر بأنه منبوذ وغير مقبول، وقد تتطور حالته إلى الاكتئاب أو العزلة الاجتماعية، كما أن تكرار الهجمات اللفظية أو الصور المحرجة يجعله يعيش في توتر دائم، مما يؤثر في نومه وتركيزه وحتى في تحصيله الدراسي، وقد ثبت في العديد من الدراسات أن «الأذى العاطفي الناتج عن العنف الرقمي قد يكون أشد من الأذى الجسدي» لأنه يطال الجانب النفسي العميق للطفل، ويغرس بداخله شعوراً بعدم الأمان لا يزول بسهولة.
دور الأسرة في الحماية والوعي
تتحمل الأسرة العبء الأكبر في مواجهة العنف الرقمي، فالطفل الذي يشعر بالأمان داخل بيته يكون أكثر قدرة على التحدث عما يتعرض له، لذلك يجب على الآباء والأمهات أن يفتحوا قنوات تواصل مستمرة مع أطفالهم، وأن يمنحوهم الثقة في الحديث عن أي موقف مزعج يصادفهم عبر الإنترنت، كما ينبغي وضع قواعد واضحة لاستخدام الهواتف ووسائل التواصل، مثل تحديد الوقت المسموح به ومتابعة المحتوى الذي يشاهدونه، إلى جانب توعية الطفل بمعنى «الخصوصية الرقمية» وكيفية الحفاظ على بياناته الشخصية وعدم مشاركة صوره أو معلوماته مع الغرباء، فكل ذلك يساعد في تقليل احتمالات وقوعه فريسة للعنف.
المدارس والبيئة التعليمية
تلعب المدارس دوراً محورياً في مواجهة العنف الرقمي من خلال البرامج التربوية التي تدمج التعليم التكنولوجي مع التثقيف الأخلاقي، فينبغي أن يتعلم الطلاب منذ الصغر معنى الاحترام الإلكتروني وكيفية التعامل بلطف في المساحات الرقمية، كما يجب أن تتوافر آليات للإبلاغ عن أي سلوك مسيء يحدث داخل مجموعات المدرسة أو عبر البريد الإلكتروني، ويمكن للمدرسين أن يكونوا خط الدفاع الأول عبر ملاحظة أي تغير في سلوك الطالب أو أدائه الدراسي، فغالباً ما تكون تلك الإشارات دليلاً على تعرضه لضغوط نفسية بسبب العنف.
وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها
تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي البيئة الأكثر انتشاراً لحدوث العنف الرقمي، فبين التعليقات الساخرة والرسائل الخفية والصور المفبركة تضيع براءة الطفولة في بحر من الإساءات التي تُلقى دون وعي، كما أن خوارزميات هذه المنصات قد تسهم في نشر المحتوى المؤذي بسرعة كبيرة مما يضاعف الضرر، لذلك من المهم أن تتبنى الشركات المالكة لهذه التطبيقات سياسات صارمة في حماية الأطفال، مثل تفعيل أدوات التبليغ الفوري عن الإساءة أو تحديد الفئات العمرية للمحتوى، وأن تعمل بالتعاون مع الحكومات على نشر ثقافة «الاستخدام الآمن للإنترنت».
كيف يمكن السيطرة على العنف الرقمي
السيطرة على العنف الرقمي تبدأ من الوعي، فكلما ارتفعت درجة إدراك الأفراد والأسر بخطورة هذا السلوك، تقل احتمالات انتشاره، ويمكن تحقيق ذلك عبر تنظيم حملات توعوية في المدارس والإعلام ومواقع التواصل، كما يجب تدريب الأطفال على مهارات «المواجهة الإيجابية» كأن يتعلموا تجاهل الرسائل المسيئة وعدم الرد عليها، أو اللجوء إلى شخص بالغ عند الحاجة للمساعدة، ومن المهم أيضاً تعليمهم أن العالم الرقمي ليس مكاناً للهرب من الواقع بل هو امتداد له، وأن السلوك المهذب يجب أن يظل هو القاعدة سواء على الأرض أو على الإنترنت.
بناء هوية رقمية آمنة للأطفال
إن مواجهة العنف الرقمي ليست فقط في رد الفعل بل في بناء بيئة رقمية صحية منذ البداية، فحين نغرس في الطفل مفاهيم احترام الذات والآخرين، ونعلمه كيف يختار أصدقاءه في العالم الافتراضي، فإننا نمنحه أدوات الحماية الذاتية، كما أن تشجيع الأنشطة الواقعية كالمطالعة والرياضة يعيد التوازن بين العالمين الرقمي والحقيقي، ويمنع تعلق الطفل المفرط بالشاشات، مما يقلل من فرص تعرضه للعنف.
مسؤولية المجتمع والمؤسسات
المجتمع بأكمله مسؤول عن الحد من العنف الرقمي، فالمؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية لها دور تكاملي في التوعية، كما يجب سن قوانين واضحة تجرم الإساءة الإلكترونية وتضمن سرعة التحقيق فيها، لأن غياب الردع يشجع المعتدين على الاستمرار، في حين أن وجود تشريعات قوية يعزز شعور الأمان لدى الضحايا، ويبعث رسالة بأن «العنف الرقمي ليس مزاحاً بل جريمة».
العنف الرقمي لم يعد ظاهرة هامشية، بل أصبح جزءاً من واقعنا التكنولوجي المعقد، ومع تزايد استخدام الأطفال للأجهزة الذكية يجب ألا نغفل عن أثره العاطفي والنفسي العميق، فالحماية تبدأ من الوعي ثم التربية ثم المراقبة الواعية، ولن نستطيع بناء جيل متوازن إلا إذا تعلم كيف يعيش في العالم الرقمي بوعي وأمان.