أعمال خالدة يظل ثوابها ملازما للإنسان حتى القيامة
يوم القيامة هو الموعد الحق الذي تنكشف فيه حقائق الأعمال، وتظهر فيه قيمة ما قدمه الإنسان في حياته الدنيا، حيث يخبرنا الله تعالى أن كل ما يتفاخر به البشر من مال وبنين وزينة ومظاهر قوة ونفوذ مصيره إلى زوال، وأن هذه الأمور مهما عظمت فإنها لا تبقى مع الإنسان ولا ترافقه بعد موته، بينما تبقى أعمال محددة ويستمر أثرها إلى يوم القيامة لتكون له نورا وثوابا ونجاة.
زينة الدنيا وزوالها قبل يوم القيامة
يبين القرآن الكريم أن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا، أي مظاهر يتجمل بها الإنسان في حياته، لكنها سريعة الزوال وقصيرة الأمد، فلا ينبغي أن تكون محور اهتمام الإنسان ولا غايته الكبرى، لأن هذه الزينة تفنى قبل أن تفنى الدنيا نفسها، ولا تنفع صاحبها عند الوقوف بين يدي الله يوم القيامة، وهذا المعنى يؤكد أن العاقل هو من يجعل الدنيا وسيلة لا غاية، ويوازن بين السعي فيها والاستعداد للآخرة.
وقد جاء هذا المعنى واضحا في قول الله تعالى «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»، حيث يلفت النص القرآني الأنظار إلى أن ما يبقى للإنسان ويلازمه إلى يوم القيامة ليس ما جمعه من متاع، وإنما ما قدمه من عمل صالح.
تفسير الشعراوي لمعنى البقاء إلى يوم القيامة
أوضح الإمام محمد متولي الشعراوي في تفسيره لهذه الآية أن المال والبنين يمثلان زينة مؤقتة، يتفاخر بها الناس فيما بينهم، لكنها لا تدوم ولا تشكل قيمة حقيقية عند الله، لأن طبيعة الدنيا نفسها قائمة على التغير والزوال، ولهذا حذر الله عباده من الانشغال بهذه الزينة عن العمل للآخرة.
وبيّن الشعراوي أن تقديم المال على البنين في الآية جاء لأن المال هو الزينة الأوضح والأيسر في التحقق، وهو متاح في أغلب الأحيان، في حين أن البنين قد لا يُرزق بهم كل إنسان، ومع ذلك فإن كليهما لا يغنيان عن صاحبهما شيئا عند الحساب يوم القيامة.
الباقيات الصالحات وأثرها الممتد
توقف العلماء والمفسرون عند معنى «الباقيات الصالحات» وتعددت أقوالهم في تفسيرها، فمنهم من قال إنها الصلوات الخمس لما لها من فضل عظيم وأثر دائم، ومنهم من رأى أنها تشمل كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى ثوابه للآخرة، وهذا التفسير هو الأوسع والأشمل لأنه يربط مفهوم البقاء بكل ما ينفع الإنسان بعد موته إلى يوم القيامة.
وتشمل الباقيات الصالحات ذكر الله بأنواعه مثل «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، كما يدخل فيها كل عمل نافع يخدم الدين والإنسانية، مثل مساعدة المحتاج، ونشر العلم، والدفاع عن الحق، وإدخال السرور على قلوب الناس، فكل هذه الأعمال تظل ذخرا لصاحبها إلى يوم القيامة.
الرد على الافتخار الزائف في الدنيا
أشار الإمام الشعراوي إلى أن هذه الآية كانت ردا على من يفتخرون بالغنى والنسب والشرف الدنيوي، وينظرون إلى الفقراء والمستضعفين نظرة استعلاء، فجاء القرآن ليقرر أن هذا الافتخار لا قيمة له عند الله، وأن المعيار الحقيقي هو العمل الصالح الذي يبقى أثره بعد الموت ويظهر جزاؤه يوم القيامة.
وهذا المعنى يرسخ مبدأ «العدل الإلهي» الذي لا يفرق بين غني وفقير إلا بما قدم من عمل، فرب فقير سبق بعمله الصالح أغنياء كثيرين، ورب غني خسر دنياه وآخرته لأنه لم يقدم ما ينفعه عند الحساب يوم القيامة.
فقراء المؤمنين والباقيات الصالحات
يدخل في عموم الباقيات الصالحات أيضا أعمال فقراء المؤمنين الذين يذكرون الله بالغداة والعشي، ويدعونه بإخلاص وخشوع، فهؤلاء لهم نصيب عظيم من الخير والثواب، وقد يفوق أثر أعمالهم البسيطة في ظاهرها أعمالا كبيرة في نظر الناس لكنها خالية من الإخلاص.
ويؤكد هذا المعنى أن قيمة العمل لا تقاس بحجمه أو مظهره، وإنما بنيته وأثره عند الله، وأن ما يخلص لله يبقى أثره ويثمر لصاحبه إلى يوم القيامة.
خير الثواب وخير الأمل يوم القيامة
يفسر العلماء قوله تعالى «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» بأن الأعمال الصالحة هي الأفضل من حيث الجزاء والأمل، لأنها تبقى عوائدها للإنسان عندما تنقطع آماله الدنيوية، فيجد ثوابها مدخرا عند الله يوم القيامة.
ويكفي الإنسان شرفا أن يكون جزاء عمله عند الله، فهذا الجزاء لا يحد ولا ينفد، ويحقق للعبد أملا عظيما يفوق كل ما كان يرجوه في الدنيا، وبذلك يتضح أن الاستثمار الحقيقي هو في العمل الصالح الذي يرافق صاحبه إلى يوم القيامة.
رسالة للمؤمنين في الاستعداد ليوم القيامة
تحمل هذه المعاني رسالة واضحة لكل إنسان بأن يجعل أعماله ميزانا لحياته، وأن يدرك أن ما يبقى له هو ما قدمه من خير، وأن السعي للدنيا لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرة، لأن لحظة الوقوف بين يدي الله يوم القيامة هي الفيصل الذي تظهر فيه الحقائق وتنكشف فيه قيمة الأعمال.



