حكم تقاضي المال مقابل تلاوة القرآن.. الأزهر للفتوى يحسم الجدل

أعاد «الأزهر» من خلال مركزه العالمي للفتوى الإلكترونية التأكيد على مسألة طالما أثارت تساؤلات بين عموم المسلمين، وهي مسألة حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن الكريم في المآتم أو المناسبات المختلفة، حيث تلقى المركز عبر موقعه الرسمي استفسارًا حول ما إذا كان من الجائز شرعًا أن يتقاضى القارئ أجرًا مقابل تلاوته لآيات الذكر الحكيم في مثل هذه المناسبات، وقد جاءت الإجابة واضحة ومدعومة بالأدلة الشرعية والنصوص النبوية التي تناولت هذا الأمر.
فقد أوضح مركز الأزهر للفتوى أن أخذ الأجرة على قراءة القرآن الكريم لا مانع فيه من الناحية الشرعية، وذلك سواء في المآتم أو غيرها من المناسبات التي يُدعى فيها أحد القراء لتلاوة كتاب الله أمام الناس، مشيرًا إلى أن الأمر له أصل في السنة النبوية الشريفة، واستشهد المركز في هذا السياق بما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من حديث صحيح رواه البخاري، يفيد بأن بعض الصحابة مروا بقوم فيهم مريض مصاب بلدغة، فقرأ أحد الصحابة عليه فاتحة الكتاب، فشفاه الله، فقدموا له مكافأة عبارة عن شاة، وعندما عاد الصحابة إلى المدينة، ذكروا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».
أخذ الأجرة على القرآن جائز شرعًا
واستنادًا إلى هذا الحديث، أكد «الأزهر» أن أخذ الأجرة على تلاوة القرآن أمر مشروع، ولا يُعد من المكاسب المحرمة، وذلك لأن القراءة هنا تمت في سبيل إفادة الآخرين وتعليمهم وتذكيرهم، ولا تختلف كثيرًا عن غيرها من الأعمال التي يُبذل فيها الجهد والوقت، كما أن في ذلك إعانة للقراء وحفاظ القرآن على التفرغ للعلم والتعليم والتلاوة، وهو ما يعود بالنفع على المجتمع كله.
كما أشار مركز الأزهر إلى أن هذا الرأي لا يتعارض مع نية القارئ إن كانت خالصة لله، لأن الماديات التي تُعطى له تدخل في باب المكافأة وليس شرطًا للدخول في العمل نفسه، وبالتالي فإن من يقرأ القرآن في مأتم أو مجلس أو مناسبة مقابل أجر، لا إثم عليه طالما لم تكن النية ملوثة بطمع أو استغلال.
موقف دار الإفتاء المصرية من المسألة
وفي السياق نفسه، أوضح الشيخ عبد الله العجمي، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خلال بث مباشر عبر صفحة دار الإفتاء على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، أن أخذ الأجرة على تلاوة القرآن الكريم، سواء في المآتم أو في حلقات التحفيظ، جائز شرعًا، واستدل هو الآخر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، وهو الحديث ذاته الذي استند إليه «الأزهر» في فتواه.
وتابع العجمي حديثه مؤكدًا على ضرورة عدم المغالاة في الأجرة، مشيرًا إلى أن القارئ أو المحفظ يقتطع من وقته جهدًا من أجل إفادة غيره، ولهذا فمن العدل أن يُكافأ على هذا الجهد، لكن ينبغي أن يكون المبلغ في حدود المعقول وألا يتحول الأمر إلى تجارة بآيات الله، لأن هذا يتنافى مع المقصد النبيل لتلاوة كتاب الله وتعليمه.
تعليم القرآن الكريم وأجر المعلمين
ولم يغفل «الأزهر» في بيانه الإشارة إلى مسألة تعليم القرآن الكريم مقابل أجر، وهي المسألة التي تشغل بال الكثيرين، خصوصًا المعلمين الذين يدرّسون كتاب الله للأطفال والناشئة، فقد أشار مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية إلى أن هذه المسألة كانت موضع خلاف بين العلماء قديمًا، إلا أن جمهور الفقهاء استقر رأيهم على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وهو الرأي الذي تتبناه الفتوى في الوقت المعاصر.
وقد استند المركز إلى ما ورد في الحديث الشريف عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي زوّج امرأة بما معه من القرآن الكريم: «اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن»، وهو ما يدل على أن تعليم القرآن يمكن أن يكون ذا قيمة مادية شرعية يُستفاد منها في إطار الحياة اليومية، وبالتالي فإن الأجر في هذه الحالة لا يُعد محرّمًا، بل هو تقدير لما يُبذل من وقت وعلم وجهد في سبيل نشر كلام الله وتعليمه للأجيال الجديدة.
اجتهاد فقهي يتماشى مع الواقع
ويُظهر «الأزهر» من خلال هذه الفتوى إدراكًا عميقًا لمتغيرات الواقع، حيث باتت الحاجة ملحة إلى تنظيم العلاقة بين العلم والعمل، خاصة في مجال علوم الدين والقرآن، فلا يمكن أن يُطلب من حفاظ كتاب الله ومعلميه أن يتفرغوا للتعليم والتلاوة دون أي مقابل يعينهم على شؤون حياتهم، كما أن الفتوى جاءت لتقطع الطريق على بعض الآراء التي تتشدد في غير موضع التشدد، وتغفل مقاصد الشريعة التي جاءت لرفع الحرج وتيسير الأمور لا لتعسيرها.
النية هي المعيار
واختتم «الأزهر» فتواه بتأكيد مهم، وهو أن النية تبقى هي الفيصل في قبول العمل، فحتى وإن حصل القارئ أو المعلم على أجر مادي مقابل عمله، فإنما يُثاب على إخلاصه في أداء هذا العمل وخدمته لكلام الله، كما يُثاب من يساعده على التفرغ للعلم ونفع الناس، فكل ذلك يدخل في باب التعاون على البر والتقوى.
ومن خلال هذه الرؤية المتزنة التي يقدمها «الأزهر» ومركزه العالمي للفتوى الإلكترونية، يتضح أن المؤسسة الدينية العريقة تسعى لتقديم فقه واقعي يُراعي حاجات العصر ومتغيراته، ويُجيب على أسئلة الناس بلغة شرعية رصينة ومستنيرة.