الخميس 29 مايو 2025 الموافق 02 ذو الحجة 1446
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
القارئ نيوز القارئ نيوز
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة

رفاعة الطهطاوي.. رائد النهضة الذي دافع عن آثار مصر قبل أن تنهب

رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي

«الطهطاوي».. في زمنٍ لم تكن فيه كلمة «الآثار» تعني الكثير لدى الحكّام أو العامة، ولم تكن هناك قوانين واضحة لحماية تاريخ مصر العريق، ظهر صوت قوي عاقل ينادي بضرورة الحفاظ على تراث الأجداد، ذلك الصوت كان رفاعة رافع الطهطاوي، الذي لم يكتفِ بدوره التنويري في الترجمة والتعليم وتأسيس المدارس، بل امتدّ تأثيره إلى مجالات أوسع، أبرزها حماية الآثار المصرية من التهريب والنهب، في وقتٍ كانت فيه المسلات تُقلع من أماكنها وتُشحَن إلى عواصم أوروبا أمام أعين الجميع.

بداية الوعي الأثري.. من باريس إلى الوطن

رحلة الطهطاوي إلى فرنسا عام 1826 كإمام للبعثة التعليمية كانت نقطة التحول الكبرى في وعيه، ليس فقط على صعيد التعليم والثقافة، بل أيضًا في إدراكه لأهمية الآثار التي كانت أوروبا تبدي انبهارًا شديدًا بها.

 في كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، دوّن الطهطاوي تأملاته حول الحضارة الغربية، ومن ضمنها ملاحظته الدقيقة لطريقة تعامل الفرنسيين مع الآثار المصرية، مشيرًا إلى أن إحدى المسلات نُقلت إلى باريس بتسهيل من محمد علي باشا، واصفًا الأمر بـ«النهب المشرعن»، ومؤكدًا أن إعجاب الأجانب لا يبرر الاستيلاء على آثار الشعوب الأخرى.

كتب الطهطاوي بمرارة: «إن الفرنجة المنبهرين بغرابة تلك المسلات، قاموا بنقل اثنتين منها إلى بلدهم، إحداهما إلى روما في وقت سابق، والأخرى إلى باريس في وقتنا الحالي، بناء على الكرم الفائض لولي النعم محمد علي باشا».

 لم يتردد في استخدام لغة قوية لوصف ما يجري، معتبرًا الأمر شبيهًا بـ«سرقة مصوغات الآخرين»، وهو موقف نادر وجريء في ظل سيطرة الحكم المطلق في ذلك الوقت.

الطهطاوي.. صوت المقاومة الأثرية

لم يكن الطهطاوي مجرد كاتب ناقم أو ناقد، بل تحوّل إلى فاعل حقيقي في ملف حماية الآثار.

 فقد دعا في مناسبات متعددة إلى الحفاظ على ما تبقى من تراث مصر الفرعوني، وحرّض على التوعية بقيمة القطع القديمة التي كانت في حوزة بعض المواطنين أو المسؤولين.

ووفقًا لما أورده الكاتب الفرنسي روبرت سوليه في كتابه «الرحلة الكبرى للمسلة»، فإن الطهطاوي كان أول من نادى علنًا بالحفاظ على الآثار المصرية في مؤلفات منشورة، مشيرًا إلى أن تلك الدعوة كانت نواة حقيقية لما يُعرف اليوم بقوانين حماية الآثار.

مدرسة الألسن.. البداية لمتحف مصري مبكر

ضمن خطواته الجادة، شجّع الطهطاوي المصريين على التوجه إلى مدرسة الألسن، التي أسسها لتعليم اللغات والترجمة، حاملين معهم ما يمتلكونه من قطع أثرية، لتكون هذه المبادرة اللبنة الأولى لمخزن آثار خاص، وهو ما يُعد أول محاولة جادة لإنشاء نواة لمتحف مصري، تحتضنه مؤسسة تعليمية وطنية، بعيدًا عن قبضة الأجانب أو الحكام المتغافلين عن أهمية التراث.

وبفضل هذا التحرك، أصدر والي مصر محمد علي باشا مرسومًا رسميًا في 15 أغسطس 1835، يقضي بمنع تصدير الآثار المصرية إلى الخارج، والبدء بجمع ما يمكن منها في مخزن خاص بالآثار، تحول لاحقًا إلى متحف دائم.

مهمة صعبة وسط تساهل رسمي

رغم صدور المرسوم، لم تكن مهمة الطهطاوي وأمثاله من المثقفين سهلة. فقد ظل التنفيذ يواجه عراقيل عدة، أبرزها تساهل الحكام أنفسهم، ومنحهم هدايا أثرية للسفراء والزوار الأجانب، وهو ما جعل مهمة الرقابة والضغط الشعبي أكثر تعقيدًا. 

لكن الطهطاوي لم يتراجع، بل واصل نضاله الفكري في كتبه وخطبه ومراسلاته الرسمية، متخذًا من الحفاظ على هوية مصر الثقافية والأثرية مهمة وطنية لا تقل عن تأسيس المدارس وإعداد النُخَب المتعلمة.

الطهطاوي.. مَن غرس فحصدنا اليوم

اليوم، حين نرى متحف الحضارة، والمتحف المصري الكبير، والمعارض الدولية التي تحتفي بكنوز مصر، لا يمكن إغفال أن نواة هذا الوعي ترجع إلى رجال مثل رفاعة الطهطاوي، الذي غرس بذور الوطنية الأثرية قبل أن يكون هناك قانون، ورفع صوته مدافعًا عن هوية مصر الحضارية، قبل أن تكون هناك وزارة للآثار.

لقد فهم الطهطاوي مبكرًا أن الأمم تُقاس بمدى احتفاظها بتاريخها، وأن من يفرّط في آثاره، يُفرّط في ذاكرته، ولذلك لم يكن مجرد مصلح اجتماعي أو مترجم عظيم، بل كان أحد أوائل حُماة الذاكرة المصرية.

تم نسخ الرابط