كوكب الشرق.. أسطورة الفن التي أنارت سماء الطرب وتاهت حولها الحكايات

رغم مرور العقود، ما تزال كوكب الشرق أم كلثوم تتربع على عرش الغناء العربي بلا منازع. صوتها العابر للأزمنة، ومسيرتها الزاخرة بالفن والحكايات، يجعلها أيقونة لا تتكرر، من الريف المصري إلى العالمية، ومن التواضع إلى المجد، حملت أم كلثوم في حياتها فنًّا راقيًا وسرًّا لا ينضب.
الانطلاقة.. من قرية «طماي الزهايرة» إلى قلوب الملايين
ولدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي وهو الاسم الحقيقي لأم كلثوم في قرية «طماي الزهايرة» بمحافظة الدقهلية، وتضاربت الروايات حول تاريخ ميلادها بين 31 ديسمبر 1898 و4 مايو 1908 حسب الأوراق الرسمية.
بدأت الغناء في سن صغيرة، عندما اصطحبها والدها، المؤذن والمنشد، لإحياء الحفلات الريفية، وهناك بزغ صوتها الشجي.
في أول فرح شعبي أحيته كوكب الشرق، حصلت على أول أجر لها، عشرة قروش، وهو ما قُسم بينها وبين والدها وأخيها، وكان ذلك الحدث بوابة انطلاقها.
الشهرة المبكرة: «إن كنت أسامح» واللقب الخالد
في عام 1928، غنت مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسيّة»، فحققت الأسطوانة أعلى مبيعات في وقتها، وبدأ اسمها يسطع في سماء الغناء العربي.
لم تكتفِ بالغناء فقط، بل لحنت لنفسها أغنية «على عيني الهجر» في العام ذاته، لتؤكد موهبتها الفذة.
وفي عام 1934، كانت أول مطربة تغني عبر الإذاعة المصرية مع افتتاحها الرسمي، لتصبح صوت الأمة دون منازع.
تعاون استثنائي مع عمالقة الشعراء والملحنين
شّدت كوكب الشرق بصوتها أكثر من 280 أغنية، جمعت فيها بين الكلمة الراقية واللحن المتقن، وتعاونت مع كبار شعراء الوطن العربي، أمثال أحمد شوقي، أحمد رامي، نزار قباني، جورج جرداق، والأمير عبدالله الفيصل.
كما لحّن لها كبار الملحنين، من الشيخ أبو العلا محمد، إلى رياض السنباطي، ومحمد عبدالوهاب، وبليغ حمدي.
أغنيتها الأخيرة «حكم علينا الهوى»، من كلمات عبدالوهاب محمد، لحّنها بليغ حمدي، ولم تُذَع إلا بعد وفاتها عام 1975، في وداع فنيٍّ مهيب.
السينما والغدة الدرقية.. حين هزمها المرض
خاضت كوكب الشرق تجربة التمثيل في ستة أفلام، أبرزها «وداد» (1936) و«فاطمة» (1947).
إلا أن مشاكلها الصحية، وبخاصة إصابتها بالغدة الدرقية، جعلت عينيها تجحظ، واضطرت لارتداء النظارة السوداء التي أصبحت لاحقًا جزءًا من صورتها.
كما قللت حفلاتها تدريجيًا، واكتفت بحفلة شهرية واحدة بعد عام 1954، التزامًا بنصائح الأطباء.
القصة الحقيقية كما روتها بنفسها
في عام 1948، كتبت أم كلثوم مقالًا نادرًا بعنوان «قصتي الحقيقية» في مجلة «آخر ساعة»، كشفت فيه تفاصيل بدايتها الفنية، وغنائها لأول مرة في فرح عند مأذون قرية "مطاي"، دون أن تتقاضى أجرًا.
وأشارت إلى سعادتها عندما تلقت أول أجر فعلي في حياتها، وكان خمسة وعشرين قرشًا، من حفل بمدينة السنبلاوين.
أسرار الزواج والحياة الشخصية
لم تكن أم كلثوم مولعة بالظهور الاجتماعي، بل وُصفت بأنها «بيتوتية»، تحب الجلوس في المنزل، وتعشق الطبخ.
وتزوجت بشكل مفاجئ من الطبيب حسن الحفناوي، وظل زواجهما مستمرًا حتى وفاتها.
وصرح ابن زوجها، الدكتور محمد حسن الحفناوي، أن كوكب الشرق كانت تعتبر لقب «ميسز حفناوي» مصدر سعادة وفخر كبير لها.
كما أشار إلى علاقة خاصة جمعت بينه وبين أم كلثوم، واصفًا إياها بأنها "مريضة بحب مصر"، وكانت تحب المشي لساعات، وتحدثه عن الوطنية والفن.
صعودها من القرى إلى العالمية
مع مرور الوقت، بدأ نجمها يلمع في مديريات أخرى، فغنّت في أجا، والمنصورة، وكفر صقر. ووصل أجرها إلى 8 جنيهات، ثم 10، وهو مبلغ ضخم في ذلك الزمان.
ومع النجاح، بدأت تركب الدرجة الثانية في القطار بدلًا من الثالثة، وحدث مرة أن تعرف عليها الكمساري، فطلب منها الغناء مقابل عدم دفع فرق الدرجة، فغنّت له طوال الرحلة!
اللقاء الذي غير حياتها
كان لقاءها الأول بالشيخ أبو العلا محمد، في حفل دعيت له من قِبل نعمان الأعصر باشا في المحلة الكبرى، نقطة تحول في حياتها.
تأثر الشيخ بصوتها، وقرّر أن يدرّبها ويساعدها على احتراف الغناء، واصطحبها إلى القاهرة، وهناك بدأت رحلتها نحو القمة.
صوت الوطن الذي لا يُنسى
رغم رحيلها، تبقى كوكب الشرق حاضرة في الوجدان العربي، بصوتها الخالد، وأغنياتها التي لا تزال تبث الدفء في القلوب، حكايتها، التي نسجت من الموهبة والتحدي والانضباط، تُعد درسًا خالدًا في الإبداع والخلود.