«سر صيام عاشوراء».. ماذا حدث ولماذا يعد من أعظم أيام السنة؟

صيام عاشوراء من العبادات التي ترتبط بذكريات عظيمة ومعانٍ روحية عميقة في وجدان المسلمين، فهو ليس مجرد يوم عابر في السنة، بل مناسبة دينية تحمل دلالات تاريخية تربط بين الأنبياء والأمم، وبين «السنة النبوية» و«الرحمة الإلهية» التي شملت نبي الله موسى عليه السلام، وقد تناول الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، تفاصيل قصة صيام عاشوراء، مبينًا كيف تحول هذا اليوم من «فرصة للنجاة» إلى «فرصة للتقرب» إلى الله عبر شعيرة الصيام، وكيف فهمه المسلمون على مدار قرون كتعبير عن المحبة والفرح والاتباع.
صيام عاشوراء والرسول الكريم
صيام يوم عاشوراء بدأ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أوضح الدكتور علي جمعة أن رسول الله كان في سفر، فلما دخل المدينة المنورة وجد أن اليهود يصومون يومًا محددًا من شهر «تشري» العبري، وعندما سأل عن السبب، قيل له إن هذا اليوم هو ذكرى نجاة سيدنا موسى عليه السلام من فرعون، فقال النبي «نحن أولى بموسى منهم»، فصامه وأمر أصحابه بصيامه، وبهذا أصبح صيام عاشوراء «سنة نبوية» مستحبة.
وقد ظل صيام هذا اليوم مفروضًا على المسلمين قبل أن يُفرض صيام رمضان، حيث نزل قوله تعالى «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه»، فنسخ فرض صيام عاشوراء، لكنه بقي سنة مؤكدة عن رسول الله، وقال في أحد أحاديثه «لو بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» أي التاسع والعاشر من المحرم، لكنه انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتحقق له ذلك، فبقي صيام عاشوراء سنة باقية بين المسلمين.
صيام وتوسعة ورحمة
أشار الدكتور علي جمعة إلى حديث مشهور يقول فيه النبي «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته»، وقد رواه الطبراني وصححه العلماء الكبار مثل الحافظ العراقي والشيخ أحمد بن الصديق، وأكد الإمام عبد الله بن المبارك صحته بالتجربة، وقال إنه طبّقه ستين سنة فوجده صحيحًا، حيث وسع على أهله في أعوام فوسّع الله عليه في رزقه، وضيق في أعوام أخرى فكان أثرها ظاهرًا عليه.
من هنا أصبح صيام عاشوراء مقترنًا بعادة حسنة وهي «التوسعة على الأهل» في المأكل والمشرب والرزق، ويُعد هذا من تجليات «الرحمة» التي جاء بها رسول الله، وواحدة من صور التعبير عن الفرح والسرور بنجاة نبي الله موسى، كما أن المسلمين في مصر تحديدًا طوّروا هذه المعاني إلى صورة جميلة من الاحتفال، عبر إعداد أكلة «عاشورا» التي توزع بين الجيران والأقارب كنوع من المودة والتراحم.
المصريون وصيام عاشوراء
لفت الدكتور جمعة إلى أن الشعب المصري بحسه الديني وذوقه الروحي أبدع في التعبير عن صيام عاشوراء، واحتفل به عبر رموز بسيطة وعادات تفيض بالمحبة، فقد أطلقوا اسم «عاشورا» على حلوى خاصة تُصنع في ليلة عاشوراء وتوزع على الجيران، كأنهم يترجمون شعيرة الصيام إلى رسالة محبة واحتفال بطابع محلي يعكس الروح الإسلامية العميقة.
وأكد أن هذا السلوك ليس بدعة كما يروج البعض، بل هو امتداد طبيعي لفهم الرحمة التي جاء بها الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُرسل ليشدد على الناس، بل جاء رحمة للعالمين، وقد علمنا أول ما علمنا «بسم الله الرحمن الرحيم» ووصفه ربه بقوله «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، فكيف يُفهم الدين اليوم من قبل بعض التيارات على أنه قسوة وتشدد وإنكار للفرح.
صيام عاشوراء ليس حزنًا بل فرحًا
أوضح الدكتور جمعة أن بعض الناس يحاولون ربط يوم عاشوراء بالحزن فقط، بسبب تزامنه مع استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه، ولكن هذا الربط لا يصح من الناحية الشرعية، لأن يوم عاشوراء في أصله ذكرى نجاة سيدنا موسى، وهو اليوم الذي أقر النبي صيامه وسنه للأمة، فخلط الحزن بالفرح في هذا اليوم لا يتماشى مع «السنة النبوية»، وإن كنا لا نقلل من فاجعة كربلاء ولا من مكانة سيدنا الحسين الذي نحبه ونجله كما لم يُجلّه أحد.
وشدد على أن محبة الحسين لا تعني ترك سنة نبوية، ولا تبرر التنازل عن شعيرة مثل صيام عاشوراء، لأن النبي نفسه هو من أقرها وحرص عليها، ونحن أتباعه نأخذ بما أمرنا به، مع احترامنا الكامل لمكانة آل البيت وحبهم وتعظيمهم.
التوازن في فهم صيام عاشوراء
من الرسائل المهمة التي أكد عليها الدكتور جمعة هي ضرورة فهم صيام عاشوراء في إطار شمولي، يراعي السُّنة ولا ينكر الفرح ولا يخلط الأمور ببعضها، فالدين ليس كراهية للحياة، ولا هو حرمان من السعادة، بل هو دعوة للرحمة والفرح والنور، وقال إن من يصف كل شيء بالبدعة، أو يهاجم كل عادة دينية عريقة بأنها حرام، لا يفهم روح الدين ولا مقصد الشريعة.
وأضاف أن من يتظاهر بالزهد في الدنيا دون امتلاكها هو في الحقيقة صاحب «زهد كاذب»، بينما الزهد الحقيقي هو أن تملك الشيء ثم لا تتعلق به، وأكد أن المصريين عبر مئات السنين جسّدوا هذا التوازن من خلال «الفرح النقي» في صيام عاشوراء، و«الاحتفال البسيط» و«الصدقة الخفية» و«النية الطيبة» التي تحولت إلى بركة في الرزق والأيام.
صيام عاشوراء هو سنة نبوية عظيمة ترتبط بمعاني النجاة والفرح والرحمة، وهي مناسبة للتأمل في علاقة الأمة بتاريخها، وفي صلة المسلمين بالأنبياء السابقين، وفي كيفية التعبير عن الفرح بطاعة الله، من خلال صيام يوم واحد يعود على القلب بالسكينة، وعلى النفس بالبركة، وعلى الأسرة بالرحمة، ولا ينبغي أن يُنظر إلى هذا اليوم إلا كما رآه النبي الكريم، يوم فرح ورحمة وشكر لله على نعمه العظيمة.