من الصحراء إلى أسوار بصرى.. كيف غير خالد بن الوليد خريطة المعركة؟

تحل اليوم ذكرى أبرز المحطات التاريخية في مسيرة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، على يد خالد بن الوليد وهي فتح مدينة بصرى، بعد أن تمكن المسلمون من اقتحام حصونها في 30 يونيو عام 632 ميلادية، الموافق 13 هجرية، ليتحقق أول انتصار عسكري وسياسي في تلك المنطقة ضد قوات الروم.
وبحسب ما ورد في كتاب «الدولة العربية في صدر الإسلام» للباحث عبد الحكيم الكعبي، فإن القائد خالد بن الوليد سار بجنوده من العراق متجهًا إلى الشام في شهر ربيع الأول من العام 13 هجرية، قاطعًا الصحراء الشاسعة في مسيرة استمرت 8 أيام.
مر خلالها بعدد من المواقع المعروفة مثل قراقر، وسوى، وقرقيسيا، ودومة الجندل، وقصم، وتدمر، وحوارين، ومرج راهط، وثنية دمشق، حتى وصل إلى مدينة بصرى.
التقاء الجيوش الإسلامية على أسوار بصرى
عند وصوله إلى مشارف المدينة، التقى خالد بن الوليد بالقادة المسلمين الذين سبقوه إليها، ومن بينهم شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة بن الجراح. وقد باشر القادة المسلمون حصار المدينة المحصنة، وبدأوا في مناوشات مع حاميتها البيزنطية التي كانت تسيطر عليها منذ عقود طويلة.
وكانت المدينة في ذلك الوقت مركزًا إداريًا وتجاريًا مهمًا في جنوب سوريا، وتتمتع بموقع استراتيجي على الحدود مع الصحراء، ما جعلها هدفًا حيويًا لأي حملة عسكرية تريد تثبيت أقدامها في المنطقة.
صلح مع أهل بصرى وانتصار دون إراقة دماء
وبعد مفاوضات استمرت أيامًا، وفق ما أشار إليه المؤرخ البلاذري في كتابه الشهير «فتوح البلدان»، توصل خالد بن الوليد إلى اتفاق صلح مع أهل بصرى، يضمن لهم الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم وأبنائهم، مقابل دفع الجزية، وهو ما أقرّه أيضًا يزيد بن أبي سفيان الذي كان متوليًا شؤون الحرب في المدينة نظرًا لإمرتها الإدارية التابعة لدمشق.
وجاء في بعض الروايات أن الصلح نُفّذ مقابل دينار عن كل رجل بالغ (حالم) وجريب من الحنطة، لتكون بصرى بذلك أولى المدن الشامية التي تدخل تحت الحكم الإسلامي عن طريق الصلح.
انطلاق الفتوحات من كورة حوران إلى أرض البلقاء
لم يكن فتح بصرى سوى بداية لموجة من الفتوحات السريعة والمنظمة في محيط كورة حوران، حيث استكمل خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح المسيرة، وضمّا مناطق تابعة إداريًا لبصرى.
ثم توجّه أبو عبيدة بقوة من كبار الصحابة إلى مآب الواقعة في أرض البلقاء، وهي من المناطق التي كان العدو قد حشد فيها قواته، وتم فتحها صلحًا أيضًا وفق الشروط نفسها التي تمت مع بصرى.
لكن بعض المصادر الأخرى تشير إلى أن مآب قد فُتحت قبل بصرى، بينما يؤكد آخرون أن فتحها جاء لاحقًا، وتحت إمرة أبي عبيدة الذي تولى قيادة الجيوش الإسلامية في الشام لاحقًا بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب.
الطريق إلى أجنادين.. نصر بعد نصر
بعد إحكام السيطرة على الجنوب الشامي، تقدمت القوات الإسلامية شمالًا لتواجه جيوش الروم في معركة أجنادين الشهيرة، والتي كانت بمثابة أول صدام عسكري واسع النطاق بين الطرفين.
وبحسب بعض الروايات التاريخية، فقد بلغ عدد قوات الروم في المعركة نحو 100 ألف مقاتل، حشدهم الإمبراطور البيزنطي هرقل من مختلف أنحاء الشام، بينما كان هو مقيمًا في مدينة حمص وقتها، يُشرف عن بُعد على تطورات المعارك.
لكن القوات الإسلامية، بقيادة خالد بن الوليد، خاضت المعركة بشجاعة واستبسال، وحققت نصرًا ساحقًا أسهم في تقويض الهيمنة الرومانية على الشام، ومهّد الطريق أمام الفتوحات الكبرى في دمشق، وحمص، وحلب لاحقًا.
دروس من الفتح.. القيادة والرحمة في آن
يُعدّ فتح بصرى نموذجًا فريدًا في الفتح الإسلامي، فقد جمع بين الحزم العسكري في الحصار، والمرونة السياسية في إبرام الصلح، والرغبة في تجنيب السكان ويلات الحرب، وهو ما يؤكده أسلوب القادة المسلمين في التعامل مع أهالي المدينة.
ويؤكد المؤرخون أن خالد بن الوليد، رغم كونه أحد أعظم القادة العسكريين، لم يكن ينظر إلى الحرب إلا باعتبارها وسيلة لتمكين الرسالة الإسلامية، وأن الصلح أولى من القتال إذا تحقق به المقصود.
إرث خالد بن الوليد في الذاكرة الإسلامية
تمر ذكرى فتح بصرى اليوم لتذكّر الأمة الإسلامية بإرث خالد بن الوليد، الذي لقّبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بـ«سيف الله المسلول»، لما عرف به من شجاعة، ودهاء عسكري، وقدرة على حسم المعارك بأقل خسائر ممكنة.
ويبقى هذا الفتح محطة مفصلية في مسيرة انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، وبداية عهد جديد في تاريخ الشام، لا يزال أثره حاضرًا حتى يومنا هذا.