دراسة: خلايا العين تقاوم العمى بإصلاح ذاتي في حالات التهاب الشبكية الصباغي

العين ليست مجرد نافذة إلى العالم بل نظام حي معقد قادر على التكيف والتجدد بطريقة لم تكن مفهومة من قبل فقد كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة «بايرورث» الأمريكية عن قدرة خلايا العين على إعادة توصيل نفسها ذاتيًا لمقاومة العمى الناتج عن مرض التهاب الشبكية الصباغي وهو مرض تنكسي يؤثر على مستقبلات الضوء داخل شبكية العين ويسبب فقدانًا تدريجيًا للرؤية.
وتعد هذه الدراسة نقطة تحول في فهمنا للكيفية التي تتفاعل بها العين مع الأمراض التنكسية إذ توصل الباحثون إلى أن العين تمتلك آلية «إصلاح ذاتي» تسمح لها بإعادة تنظيم الاتصالات العصبية بين الخلايا بعد تلف بعض المستقبلات الضوئية وهو ما يعني أن الأمل في استعادة البصر لم يعد مستحيلًا كما كان يُعتقد.
كيف يعمل إصلاح العين الذاتي؟
اعتمدت الدراسة على تقنيات تصوير متقدمة ورصد صحي لخلايا الشبكية لدى فئران مصابة بالتهاب الشبكية الصباغي حيث لاحظ العلماء أن بعض خلايا الشبكية المتخصصة في استقبال الضوء والتي تُعرف باسم «العصي» و«المخاريط» تبدأ بفقدان قدرتها على العمل نتيجة المرض ومع ذلك تبدأ الخلايا المحيطة بها بإعادة بناء الروابط العصبية فيما بينها في محاولة لتعويض التلف الحاصل.
والمثير أن هذا «الإصلاح الذاتي» لا يقتصر على الحفاظ على البنية فقط بل يسهم في تحسين استجابة العين للضوء من جديد مما يشير إلى أن العين تمتلك مرونة عصبية تفوق ما كان يُعتقد سابقًا وتفتح هذه النتائج آفاقًا واسعة أمام تطوير علاجات تستهدف دعم هذا السلوك التجديدي وتعزيزه بدلًا من استبدال الخلايا المتضررة.
أمل جديد لمرضى التهاب الشبكية الصباغي
يُعد التهاب الشبكية الصباغي من الأمراض الوراثية النادرة التي تصيب العين وهو يؤثر على ما يقرب من شخص واحد من كل 4000 شخص حول العالم وتبدأ أعراضه عادة بفقدان الرؤية الليلية ثم يتطور تدريجيًا إلى فقدان البصر المحيطي وأحيانًا العمى الكامل.
وقد كانت العلاجات المتوفرة حتى وقت قريب تركز على إبطاء تطور المرض أو استخدام التقنيات الجراحية أو الجينية لمحاولة استبدال الخلايا المتضررة لكن الدراسة الجديدة تشير إلى إمكانية دعم العين لتُعيد ترتيب نفسها بشكل طبيعي مما قد يغير تمامًا من طبيعة التعامل مع هذه الحالات.
ويقول الدكتور «جايسون لو» المشرف على الدراسة إن العين لا تتخلى بسهولة عن وظيفتها وإن خلاياها تبذل «جهدًا فطريًا» لإعادة بناء الروابط المفقودة عندما تتعرض للهجوم من الأمراض التنكسية ويضيف أن هذا النوع من «الإصلاح الذاتي» لم يكن مرصودًا سابقًا بمثل هذا الوضوح والدقة.
العين ليست مجرد متلقٍ بل مقاوِمة
من اللافت في هذه النتائج أنها تعكس تصورًا جديدًا حول العين بأنها ليست مجرد متلقٍ سلبي للمؤثرات الخارجية بل كيان نشط يستجيب ويُكيّف نفسه للتغيرات المرضية إذ يمكن القول إن العين تمتلك قدرة داخلية على «المرونة العصبية» شبيهة بتلك التي تُلاحظ في الدماغ عند تعلم مهارات جديدة أو التكيف مع الإصابات.
وقد أظهرت الدراسة أن إعادة التوصيل بين الخلايا لا تتم عشوائيًا بل وفق نمط منظم يعكس محاولة من العين لإعادة بناء المسارات العصبية المفقودة بما يضمن استمرار تدفق المعلومات البصرية من الشبكية إلى الدماغ ولو جزئيًا.
انعكاسات مستقبلية للعلاج
يأمل الباحثون أن تساهم هذه النتائج في تطوير علاجات جديدة لا تعتمد فقط على التكنولوجيا البصرية مثل النظارات الذكية أو زرع الرقائق الإلكترونية داخل العين بل على تحفيز السلوك الطبيعي لخلايا العين في إعادة الاتصال وتجديد نفسها.
ومن المتوقع أن يشهد العقد القادم تحولات كبيرة في مجال علاج أمراض الشبكية اعتمادًا على هذا الفهم الجديد لآليات التكيف داخل العين خاصة أن هناك دراسات بدأت بالفعل في تطوير عقاقير تعمل على تحفيز الخلايا العصبية داخل العين على بناء روابط جديدة بدلًا من الاعتماد على الجراحة وحدها.
العين في قلب الأبحاث الطبية المستقبلية
بلا شك فإن هذا الاكتشاف يجعل العين واحدة من أهم مجالات البحث في علم الأعصاب والطب البصري إذ لم تعد العين مجرد عضو بصري بل نموذجًا لدراسة كيف يمكن للجسم أن يُعيد تنظيم نفسه للتعامل مع التدهور المرضي مما قد ينعكس بدوره على مجالات مثل إصابات الدماغ والحبل الشوكي حيث تلعب «المرونة العصبية» دورًا رئيسيًا في الشفاء.
ويؤكد الباحثون أن ما تم اكتشافه عن العين قد يكون فقط بداية لفهم أوسع عن قدرات الجسم الطبيعية على التكيف والشفاء خاصة عندما يتلقى دعمًا علميًا ودوائيًا مناسبًا.