الأحد 25 مايو 2025 الموافق 27 ذو القعدة 1446
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
القارئ نيوز القارئ نيوز
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة

العمل الليلي وتأثيره على الإيقاع النفسي.. اضطراب صامت يهدد الصحة العامة

العمل الليلى
العمل الليلى

العمل بنظام المناوبات الليلية أصبح جزءًا من واقع الكثير من المهن الحيوية في هذا العصر، مثل العاملين في القطاع الصحي والنقل والأمن والمصانع، وعلى الرغم من أهميته في ضمان استمرار الخدمات على مدار الساعة، إلا أن لهذا النوع من «العمل» آثارًا سلبية عديدة على الصحة النفسية والجسدية، حيث يسبب «اختلالًا في الإيقاع النفسي» اليومي ويؤثر على جودة الحياة بشكل غير مباشر ولكنه عميق ومستمر.

إيقاع الحياة الطبيعية يتعرض للخلل

الإنسان بطبيعته مبرمج بيولوجيًا على «العمل» واليقظة في النهار والنوم في الليل، ويعرف هذا التوازن باسم «الساعة البيولوجية»، وهي المنظومة التي تنظم إفراز الهرمونات ودرجة الحرارة الداخلية ومستوى اليقظة والطاقة، وعندما يبدأ الشخص في «العمل» ليلًا وينام نهارًا، تبدأ هذه الساعة بالاختلال، ما يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب والتوتر المزمن، وتزداد هذه الآثار مع مرور الوقت.

الأشخاص الذين يخضعون لنظام مناوبات غير منتظمة أو يعملون ليلًا بشكل مستمر يلاحظون تراجعًا في القدرة على التركيز وانخفاضًا في مستوى النشاط العام، كما يعانون من ضعف في العلاقات الاجتماعية نظرًا لانعكاس أوقات نومهم ويقظتهم عن نمط حياة الغالبية، ما يؤدي إلى شعور بالعزلة والانفصال عن المجتمع، وكل هذه العوامل تساهم في تدهور «الصحة النفسية» تدريجيًا.

التأثير الهرموني والمزاجي

العمل الليلي يغير إيقاع إفراز هرمون «الميلاتونين» المسؤول عن تنظيم النوم، حيث يفرز هذا الهرمون طبيعيًا في الليل عندما يكون الجسم في حالة استرخاء وظلام، لكن الضوء الاصطناعي والإجهاد المرتبط بساعات «العمل» الليلية يعيقان إفرازه، ما يؤدي إلى اضطرابات نوم حادة، ونتيجة لذلك يعاني العامل من ضعف المزاج ونوبات من القلق والعصبية.

كما أن هناك خللًا يطرأ على هرمونات أخرى مثل الكورتيزول، الذي يرتبط بالاستجابة للضغط النفسي، حيث يرتفع مستواه بشكل غير منتظم عند من يعملون ليلًا، ما يخلق حالة من «التوتر المزمن» قد تؤدي في بعض الحالات إلى اضطرابات نفسية أكثر تعقيدًا مثل الاكتئاب السريري واضطرابات القلق العام.

الإرهاق النفسي ومخاطر الانهيار

يؤدي العمل الليلي إلى تراكم الإرهاق الذهني والبدني نتيجة غياب فترات الراحة المناسبة، فالليل هو الوقت الذي يحتاج فيه الدماغ للهدوء واستعادة التوازن، ولكن «العمل» خلال هذه الساعات يسلب العقل والجسد فرصتهما الطبيعية في التجدد، مما يتسبب في ما يُعرف بـ «الإنهاك النفسي»، وهي حالة من الاستنزاف العقلي تظهر على شكل تبلد شعوري وفقدان الحماسة وصعوبة في التحكم بالمشاعر.

وبمرور الوقت، قد يفقد العامل شغفه بمهامه ويشعر بانعدام الجدوى، ويتطور ذلك إلى أعراض أخطر مثل الانفصال العاطفي وفقدان الرغبة في التواصل مع الزملاء أو أفراد الأسرة، وكل هذه الأعراض تُعد من علامات الإصابة بما يُعرف بمتلازمة الاحتراق النفسي.

الانعزال عن المجتمع والأثر الاجتماعي

واحدة من أهم الجوانب التي تتضرر بسبب «العمل» الليلي هي الحياة الاجتماعية، حيث يفقد الشخص فرص التفاعل اليومي مع أفراد عائلته أو أصدقائه، خاصة خلال عطلات نهاية الأسبوع أو المناسبات العامة، وغالبًا ما يقضي العامل الليلي هذه الأوقات في النوم لتعويض الإرهاق، ما يؤدي إلى الشعور بـ«العزلة الاجتماعية» وهو عامل رئيسي من عوامل الاكتئاب.

عدم مشاركة الأنشطة الاجتماعية يخلق فجوة بين العامل ومحيطه، وتبدأ علاقاته الاجتماعية في التراجع، كما أن قلة الدعم العاطفي الناتج عن هذه العزلة تزيد من مستويات التوتر وتجعل الفرد أكثر عرضة للضغوط النفسية، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة «العمل» ذاته وعلى الإنتاجية.

حلول ممكنة للتخفيف من الآثار النفسية

لا يمكن إلغاء «العمل» الليلي من جميع القطاعات، لكنه يمكن التخفيف من آثاره النفسية عبر بعض الخطوات التنظيمية، مثل تنظيم جداول العمل لتشمل فترات راحة كافية، وتدوير المناوبات بشكل عادل، كما يُنصح باستخدام الإضاءة الخافتة خلال ساعات الليل وتقليل الضوضاء قدر الإمكان أثناء الراحة النهارية.

من المهم أيضًا تشجيع العاملين على ممارسة الرياضة وتناول وجبات صحية، إلى جانب تقديم دعم نفسي من قبل إدارات الموارد البشرية، كما أن تعزيز ثقافة الاهتمام بـ«الصحة النفسية» في بيئة «العمل» قد يسهم في خلق مناخ أكثر توازنًا واستقرارًا للعاملين بنظام المناوبات.

تأثير غير مرئي لكنه عميق

في النهاية لا يمكن تجاهل أن «العمل» الليلي، رغم ضرورته، يحمل في طياته «تأثيرات نفسية» قد تكون غير مرئية على المدى القريب، لكنها تتراكم بمرور الزمن لتخلق اختلالًا في الإيقاع النفسي للفرد، وما لم يتم التعامل مع هذا الوضع بشكل علمي ومدروس، فإن المؤسسات والمجتمعات قد تواجه خسائر بشرية غير محسوبة في صورة عمال مرهقين نفسيًا، عاجزين عن تقديم أفضل ما لديهم، وبالتالي يصبح من الضروري إعادة النظر في سياسات «العمل» الليلي وتوفير بدائل صحية ومستدامة.

تم نسخ الرابط